كان النهار قد بدأ لتوه يسلم أمره لأول خيوط الظلام ، الزاحفة بدورها على الهضاب المطلة على " وادي بهت" ، والسيارة تطوي في جنون ما تبقى من مسافة بين مدينتي فاس وتيفلت ، وتلتهم خطوطا أصبحت أكثر بياضا ووضوحا . الصباغة البيضاء لعلامات التشوير بدورها بدأت تبدو أكثر وضوحا ولمعانا ، وتشير إلى منعرجات في تناغم لا يحتاج إلى دليل ، مع كمنجات وحناجر مغرقة في الأنوثة ، تصاحب إيقاعا زموريا خالصا. إنه ال "جسد" بكل حمولاته ، يتلوى في مخيلتي الكسلى أمام ذكريات فحولة منسية ، يهتز في وسط الدار، فوق السطوح أو في سهرات نهايات السبت على شاشات الأبيض والأسود . لكنه " ا ل جسد" هنا بالتعريف ل ابا ادريس أمغار المسناوي الأب / الصديق / المفكر / الفيلسوف الصامت / شيخ الزجالين بالمغرب. ينطق فتخرج الكلمات الميتة من فمه حيات تسعى : نارا ونورا / بردا وسلاما ، وبإيقاعات مختلفة لا تغادر صغيرة أو كبيرة : نوتات موسيقية / عواصف رعدية / أجواء ربيعية. ابا إدريس المسناوي وحده من يرحل بك عبر كلمات قليلة ومحسوبة إلى عوالم مختلفة ، وأنت جالس أمامه / منصت إليه .
نحل عين الأحلام ...تشوف بعيد من راس العام
نوسع ربوع العالم .... نزيد فيه شمس وقمرة...
نوسع خاطري ....نزيد فيه روح أخرى
هكذا تصبح الأحلام عند ابا ادريس عالما يتحكم في جغرافيتها ، والجسد مساحة على مقاسه يزيد من أضلاعها ، يوسع في خاطرها لتتسع لأرواح أخرى. أتذكر الآن جيدا صوتا وقورا وأنا في طريقي الليلي إليه ، وهو يصلني تباعا عبر الأثير: " يشرفني أن تحضر تكريمي أواسط أكتوبر2011م بدار الشباب " . لم يكن المتلقي حينها غير هذا العبد الضعيف الذي يتحسس طريقه الأدبي الصعب ، ولم يكن المتكلم إلا (هو) ابا إدريس المسناوي شيخ الزجالين بالمغرب . عرفت حينها كم هو متواضع وكبير هذا المبدع / الإنسان في زمن هوت الإنسانية إلى أسفل شطر في قصيد رديء. وحده من علم المتكبرين الصغار كيف يتواضعون أمام أنفسهم قبل الآخرين ، كيف يحافظون على مكانتهم في القمة إن هم وصلوا إليها. في المطعم بعد انتهاء التكريم كنت أتلصص عليه ، وإذا هو يستمع في خشوع الناسكين إلى قصائد تتلى ، وإلى أصوات شابة بدأت تشق طريقها الصعب إلى القمة.
الأفضل نبقى لذاتي ... حتى ندرك حواسي
نعرف كيف تتعايش الحياة بيا وبلا بيا
نرد على صيادين المعيز في سمايا
شكون قاليكم...أنا ماشي معايا....‼
الأسماء الكبيرة عادة ما تنبت في المدن الصغيرة ، شفشاون وعبد الكريم الطبال ، تافراوت ومحمد خير الدين أو مدينة تيفلت ( قد ذراعها ...قد لسانها ) كما وصفها زجالها المسناوي ، والتي كانت دوما ولودا : المرحوم إدريس بنزكري المناضل الحقوقي ، الذي قضى ردحا طويلا من عمره في سجون سنوات الجمر والرصاص - المرحوم سعيد بلقولة أول حكم مغربي وعربي / إفريقي يحكم نهاية كأس العالم . أما ابا إدريس أمغار المسناوي ، فهو ليس ذاكرة مدينة صغيرة أو ذاكرة مغرب كبير وحسب ، لكنه ذاكرة الإنسان في كل مكان ، إنه مبدع عالمي في مدينة صغيرة. لذلك كان من حق جمعية ربيع تيفلت أن تحتفي به كهرم من أهرامات الشعر بالمدينة والمغرب. وكانوا هناك ... ، كل محبيه وعشاقه وأصدقائه : عازف العود الفنان سعيد الخمليشي الذي أتى بالمناسبة خصيصا من سوسرا - الطيب هلو الشاعر القادم من مدينة وجدة- إدريس الزاوي "عظيمات الشقا " والشيكي وكثير من شعراء المدينة ومبدعيها ومثقفيها ومبدعي بعض المدن المجاورة بصيغة المذكر والمؤنث.
أهدافي حية... تجي قدام الزمان
من قال بعت ضوي للشيطان ؟
وانا طالع نملك يقين الغابة....من حياة الإنسان
هكذا هي كلمات ابا ادريس ، تخرج من فمه حروفا يبعث الروح والوزن في إيقاعها ، لتصبح سحابات ناصعة في بياضها ، زفرات أو جمرات حارقة في معانيها أو صور لأميرات تختال في مشيتها.